فصل: تفسير الآية رقم (38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (38):

القول في تأويل قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} [38].
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} كلام مستأنف، وقصة مستقلة، سيقت في تضاعيف حكاية مريم، لما بينهما من قوة الارتباط، وشدة الاشتباك، مع ما في إيرادها من تقرير ما سيقت له حكايتها من بيان اصطفاء آل عِمْرَان. فإن فضائل بعض الأقرباء أدلة على فضائل الآخرين، و{هُنَا} ظرف مكان، أي: في ذلك المكان، حيث هو عند مريم في المحراب، أو ظرف زمان أي: في ذلك الوقت، إذ يستعار هنا وثمت وحيث للزمان، دعا زكريا ربه لما رأى كرامة مريم على الله ومنزلتها منه تعالى، رغب في أن يكون له من زوجته ولد مثل ولد أختها في النجابة والكرامة على الله تعالى. وإن كانت عاقراً عجوزاً كذا في أبي السعود والذرية هنا الولد. قال الزمخشري: تقع على الواحد والجمع، وقد سبق الكلام عليها قريباً عند قوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عِمْرَان: من الآية 34] قوله: {طَيِّبَةً} بمعنى: مطيعة لك، لأن ذلك طلبة أهل الخصوص كما سبق إيضاحه في آية: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ} الخ. وقوله تعالى: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} أي: مجيبه، وقد أجابه الحق تعالى، فأرسل إليه الملائكة مبشرة كما قال تعالى:

.تفسير الآية رقم (39):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلائكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} [39].
{فَنَادَتْهُ الْمَلائكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ} أي: على ألسنتنا: {بِيَحْيَى} وقد قرئ في السبع بكسر: {إنَّ} وفتحها، ولفظ يحيى معرب عن يوحنا اسمه في العبرانية. ومعنى يوحنا: نعمة الرب، كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ} أي: بنبي خلق بكلمة كن من غير أب. يرسله الله إلى عباده فيصدقه هو. وذلك عيسى عليه السلام: {وَسَيِّداً} أي: يسود قومه ويفوقهم: {وَحَصُوراً} أي: لا يقرب النساء حصراً لنفسه، أي: منعاً لها عن الشهوات عفة وزهداً واجتهاداً في الطاعة: {وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ} أي: ناشئاً منهم؛ لأنه من أصلابهم. أو كائناً من جملتهم، كقوله: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130]. ولما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر.

.تفسير الآية رقم (40):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} [40].
{قَالَ رَبِّ أَنَّىَ} أي: كيف، أو من أين: {يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} أي: أدركني الكبر الكامل المانع من الولادة فأضعفني: {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} أي: ذات عقر، فهو على النسب، وهو في المعنى مفعول أي: معقورة، ولذلك لم يلحق تاء التأنيث: {قَالَ كَذَلِكَ} يكون لك الولد على الحال التي أنت وزوجتك عليها؛ لأن الله تعالى لا يحتاج إلى سبب، بل: {اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر. وفي إعراب: {كَذَلِكَ} أوجه. منها: أنه أخبر لمحذوف أي: الأمر كذلك. وقوله تعالى: {اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} بيان له. ومنها أن الكاف في محل النصب على أنها في الأصل نعت لمصدر محذوف. أي: الله يفعل ما يشاء فعلاً من ذلك الصنع العجيب الذي هو خلق الولد من شيخ فانٍ وعجوز عاقر.

.تفسير الآية رقم (41):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [41].
{قَالَ} زكريا: {رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً} أي: علامة أعرف بها حصول الحمل. وإنما سألها لكون العلوق أمراً خفياً لا يوقف عليه، فأراد أن يعلمه الله به من أوله ليتلقى تلك النعمة بالشكر من أولها، ولا يؤخره إلى أن يظهر ظهوراً معتاداً: {قال} الله تعالى: {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ} أي: أن لا تقدر على تكليمهم: {ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً} أي: إشارة بيد أو رأس. وإنما جعلت آيته ذلك لتخليص المدة لذكره تعالى شكراً على ما أنعم به عليه. وقيل: كان ذلك عقوبة منه تعالى بسبب سؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه- حكاه القرطبي عن أكثر المفسرين-: {وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً} أي: ذكراً كثيراً: {وَسَبِّحْ} أي: وسبِّحه: {بِالْعَشِيِّ} وهو آخر النهار. ويقع العشي أيضاً على ما بين الزوال والغروب: {وَالإِبْكَارِ} وهو الغدوة، أو من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس. قال السيوطي في الإكليل: في الآية الحث على ذكر الله تعالى وهو من شعب الإيمان. قال محمد بن كعب: لو رخص الله لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا؛ لأنه منعه من الكلام وأمره بالذكر- أخرجه ابن أبي حاتم-.

.تفسير الآية رقم (42):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ} [42].
{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ} شروع في تتمة فضائل آل عِمْرَان. قال المهايمي: فيه إشارة إلى جواز تكليم الملائكة الولي، ويفارق النبي في دعوى النبوة: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ} بالتقريب والمحبة: {وَطَهَّرَكِ} عن الرذائل ليدوم انجذابك إليه: {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ} بالتفضيل وبما أظهره من قدرته العظيمة حيث خلق منك ولداً من غير أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء. وفي الإكليل: استدل بهذه الآية من قال بنبوة مريم. كما استدل بها من فضّلها على بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه. وجوابه: أن المراد عالمي زمانها قاله السدي-.

.تفسير الآية رقم (43):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [43].
{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} أي: اعبديه شكراً على اصطفائه: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي: لتزدادي بكثرة السجود والصلاة قرباً. قال البقاعي: الظاهر أن المراد بالسجود هنا ظاهره، وبالركوع الصلاة نفسها، فكأنه قيل: واسجدي مصلية، ولتكن صلاتك مع المصلين، أي: في جماعة، فإنك في عداد الرجال لما خصصت به من الكمال. ثم قال: وإنما قلت هذا لأني تتبعت التوراة، فلم أره ذكر فيها الركوع في صلاة إبراهيم ولا من بعده من الأنبياء عليهم السلام، ولا أتباعهم إلا في موضع واحد، لا يحسن جعله فيه على ظاهره. ورأيته ذكر الصلاة فيها على ثلاثة أنحاء:
الأول: إطلاق لفظها من غير بيان كيفية.
والثاني: إطلاق لفظ السجود مجرداً.
والثالث: إطلاقه مقروناً بركوع أو حبو أو خرور على الوجه، ونحو ذلك.
ثم ساق البقاعي ما وقع من النصوص في ذلك، وقال بعد: فالذي فهمته من هذه الأماكن وغيرها: أن الصلاة عندهم تطلق على الدعاء وعلى فعل هو مجرد السجود، فإن ذكر معه ما يدل على وضع الوجه على الأرض فذاك، وحينئذ يسمى صلاة. وإلا كان المراد به مطلق الانحناء للتعظيم. وذلك موافق للغة، قال في القاموس: سجد: خضع، والخضوع: التطامن، وأما المكان الذي ذكر فيه الركوع، فالظاهر أن معناه: فعل الشعب كله ساجداً لله، لأن الركوع يطلق في اللغة على معان، منها الصلاة. يقال: ركع أي: صلى، وركع إذا انحنى كثيراً، ولا يصح حمل الركوع على ظاهره، لأنه لا يمكن في حال السجود، وإن ارتكب فيه تأويل لم يكن تأويل مما ذكرته في الركوع- والله أعلم- واحتججت باللغة لأن مترجم نسخة التوراة، التي وقعت لي، في عداد البلغاء، يعرف ذلك من تأمل واقع ترجمته لها. على أن سألت عن صلاة اليهود الآن، فأخبرت أنه ليس فيها ركوع، ثم رأيت البغوي صرح في قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]. بأن صلاتهم لا ركوع فيها، وكذا ابن عطية وغيرهما. انتهى كلام البقاعي.
لطيفة:
قال السيوطي في الإكليل: في الآية دليل على أن الجماعة مطلوبة في الصلاة، وعلى أن المرأة تندب لها الجماعة.

.تفسير الآية رقم (44):

القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [44].
{ذَلِكَ} إشارة إلى ما سبق: {مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ} أي: الأنباء المغيبة عنك: {نُوحِيهِ إِلَيكَ} مطابقاً لما في كتابهم. وتذكير الضمير في: {نُوحِيهِ} بجعل مرجعه ذلك: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} أي: وما كنت معايناً لفعلهم، وما جرى من أمرهم في شأن مريم إذ يلقون أقلامهم، أي: سهامهم التي جعلوا عليها علامات يعرف بها من يكفل مريم على جهة القرعة: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} بسببها تنافساً في كفالتها. وقد روي عن قتادة وغيره: أنهم ذهبوا إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك على أن يلقوا أقلامهم، فأيهم ثبت في جرية الماء فهو كافلها. فألقوا أقلامهم، فاحتملها الماء إلا قلم زكريا، فإنه ثبت. ويقال إنه ذهب صاعداً يشق جرية الماء والله أعلم.
قال أبو مسلم: معنى {يلقون أقلامهم}، مما كانت الأمم تفعله من المساهمة عند التنازع فيطرحون منها ما يكتبون عليها أسماءهم، فمن خرج له السهم سلم له الأمر، وقد قال الله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141]، وهو شبيه بأمر القداح التي تتقاسم بها العرب لحم الجزور. وإنما سميت هذه السهام أقلاماً لأنها تقلم وتبرى، وكل ما قطعت منه شيئاً بعد شيء فقد قلمته، ولهذا السبب يسمى ما يكتب به قلماً. وقال السيوطي في الإكليل: هذه الآية أصل في استعمال القرعة عند التنازع. وقال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية أنه يجوز التخاصم لطلب الفضل حتى يتميز واحد بمزية، ودلت على أن التمييز يحصل بالقرعة في الأمر الملبس.
لطيفة:
قال الزمخشري: فإن قلت: لم نفيت المشاهدة، وانتفاؤها معلوم بغير شبهة، وترك نفي استماع الأنباء من حفاظها، وهو موهوم؟
قلت: كان معلوماً عندهم علماً يقيناً أنه ليس من أهل السماع والقراءة، وكانوا منكرين للوحي، فلم يبق إلا المشاهدة، وهي في غاية الاستبعاد والاستحالة، فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي، مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة. ونحوه: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ} [القصص: 44]، {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} [القصص: 46]، {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} [يوسف: 102]،- انتهى- وبالجملة: فالنفي تقرير وتحقيق لكون تلك الأنباء وحياً على طريقة التهكم بمنكريه.

.تفسير الآية رقم (45):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [45].
{إِذْ قَالَتِ الْمَلائكَةُ} شروع في قصة عيسى عليه السلام: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} أي: بمولود يحصل بكلمة منه بلا واسطة أب: {اسْمُهُ} ذكر الضمير الراجح إلى الكلمة لكونها عبارة عن مذكر. أي: اسمه الذي يميزه لقباً: {الْمَسِيحُ} وعلماً: {عِيسَى} معرب يسوع بالسين المهملة، كلمة يونانية معناها مخلِّص ويرادفها يشوع بالمعجمة، إلا أنها عبرانية كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل، وفيها أن المسيح بمعنى: الممسوح أو المدهون. قال البقاعي: وأصل هذا الوصف أنه كان في شريعتهم: من مسحه الإمام بدهن القدس كان طاهراً متأهلاً للملك والعلم والولايات الفاضلة مباركاً، فدل سبحانه على أن عيسى عليه السلام ملازم للبركة الناشئة عن المسح، وإن لم يمسح. انتهى. وإنما قال: {ابْنُ مَرْيَمَ} مع كون الخطاب لها، تنبيهاً على أنه يولد من غير أب، فلا ينسب إلا إلى أمه، وبذلك فضلت على نساء العالمين: {وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي: سيداً ومعظماً فيهما: {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} أي: من الله عز وجل.

.تفسير الآية رقم (46):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [46].
{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} في محل النصب على الحال: {وَكَهْلاً} عطف عليه بمعنى ويكلم الناس، حال كونه طفلا وكهلاً، كلام الأنبياء من غير تفاوت بين الحالتين، وذلك لا شك أنه غاية في المعجز. وفي ذلك بشارة ببقائه إلى أن يصير كهلاً. والمهد: الموضع الذي يهيأ للصبي ويوطأ لينام فيه. والكهل: من وخطه الشيب، أو من جاوز الثلاثين إلى الأربعين أو الخمسين. قال ابن الأعرابي: يقال للغلام مراهق، ثم محتلم، ثم يقال: تخرج وجهه، ثم اتصلت لحيته، ثم مجتمع، ثم كهل، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. قال الأزهري: وقيل له كهل حينئذ: لانتهاء شبابه وكمال قوته. وقوله تعالى: {وَمِنَ الصَّالِحِينَ} قال ابن جرير: يعني من عدادهم وأوليائهم؛ لأن أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل.

.تفسير الآية رقم (47):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [47].
{قَالَتْ} مخاطبة لله الذي بعث إليها الملائكة: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} أي: لست بذات زوج: {قَالَ كَذَلِكِ} أي: على الحالة التي أنت عليها من عدم مس البشر: {اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء} ولا يحتاج إلى سبب، ولا يعجزه شيء، وصرح هاهنا بقوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} ولم يقل: {يَفْعَلُ} كما في قصة زكريا، لما أن الخلق المنبئ عن الإحداث للمكون أنسب بهذا المقام؛ لئلا يبقى لمبطل شبهة، وأكد ذلك بقوله:
{إِذَا قَضَى أَمْراً} من الأمور أي: أراد شيئاً كما في قوله تعالى: {إِذَا أَرَادَ شَيْئاً} [يس: 82]: {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}، من غير تأخر ولا حاجة إلى سبب كقوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]. أي: إنما نأمر مرة واحدة لا تثنية فيكون ذلك الشيء سريعاً كلمح البصر. وتقدم الكلام على هذه الآية في سورة البقرة.